فصل: قال أبو البقاء العكبري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



3- وفي قوله للّه فن الاختصاص للدلالة على أن جميع المحامد مختصة به وكذلك بالإضافة في قوله {مالك يوم الدين} لزوال المالكين والأملاك عن سواه في ذلك اليوم.
4- وفي هذه السورة فن الالتفات من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب ومن لفظ الخطاب إلى لفظ الغيبة والغرض من هذا الفن التّطرية لنشاط الذهن جريا على أساليبهم، ولأنه لما أثنى على اللّه بما هو أهل له وأجرى عليه تلك الصفات العظيمة ساغ له أن يطلب الاستعانة منه بعد أن مهد لذلك بما يبرر المطالبة وهو، تعالى، خليق بالاستجابة، وللاشعار بأن اولى ما يلجأ اليه العباد لطلب ما يحتاجون اليه هو عبادته تعالى والاعتراف له بصفات الألوهية، البالغة، وقال: {صراط الذين أنعمت عليهم} فأصرح الخطاب لما ذكر النّعمة ثم قال: {غير المغضوب عليهم} فزوى لفظ الغضب عنه تحنّنا ولطفا وهذا غاية ما يصل اليه البيان، وهذه مراتب الالتفات في هذه السورة:
آ- عدل عن الغيبة إلى الخطاب بقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} بعد قوله: {الحمد لله رب العالمين} لأن الحمد دون العبادة في المرتبة ألا تراك تحسد نظيرك ولا تعبده فلما كانت الحال بهذه المثابة استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر ولم يقل الحمد لك.
ب- ولما صار إلى العبادة وهي قصارى الطاعات قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} فخاطب بالعبادة إصراحا بها، وتقرّبا منه عزّ وجلّ بالانتهاء إلى عدد محدود منها.
ح- وعلى نحو من ذلك جاء آخر السّورة فقال: {صراط الذين أنعمت عليهم} فأصرح الخطاب لما ذكر النعمة ثم قال: {غير المغضوب} عليهم عطفا على الأول، لأن الأول موضع التقرّب من اللّه بذكر نعمه وآلائه فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب فأسند إليه النعمة لفظا وزوى عنه لفظ الغضب تحنّنا ولطفا.
د- وأتى بنون الجمع في قوله: {نعبد} و{نستعين} والمتكلم واحد لأنه ورد في الشّريعة أنه من باع أجناسا مختلفة صفقة واحدة ثم ظهر للمشتري في بعضها عيب فهو مخيّر بين ردّ الجميع أو إمساكه وليس له تبعيض الصّفقة، بردّ المعيب وإبقاء السّليم، وهنا لما رأى العابد أن عبادته ناقصة معيبة لم يعرضها على اللّه مفردة بل جنح إلى ضمّ عبادة جميع العابدين إليها وعرض الجميع صفقة كاملة راجيا قبول عبادته في ضمنها لأنّ الجميع لا يردّ البتّة، إذ بعضه مقبول وردّ المعيب، وابقاء السليم تبعيض للصفقة وقد نهى سبحانه عباده عنه، وهو لا يليق بكرمه العظيم، وفضله العميم فبقي قبول الجميع.
5- وعلى ذكر استهلال القرآن بالفاتحة نذكر هذا الفنّ في الفاتحة، وهو براعة الاستهلال، وهو من ارقّ فنون البلاغة وأرشقها، وحدّه أن يبتدئ المتكلم كلامه بما يشير إلى الغرض المقصود من غير تصريح بل بإشارة لطيفة، وإيماءة بعيدة أو قريبة، والاستهلال في الأصل: هو رفع الصوت، وسمي الهلال هلالا لأن الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته ومن أمثلته في الشعر قول أبي تمام في مطلع قصيدته فتح عمورية:
السّيف أصدق أنباء من الكتب ** في حدّه الحدّ بين الجدّ والّلعب

فقد استهلّ قصيدته بذكر السيف وفيه إيماءة قريبة جدا إلى الموضوع الذي نظمت القصيدة بصدده وقد اشتهر أبو الطيب ببراعة مطالعه ومن روائعها قوله:
أتراها لكثرة العشّاق ** تحسب الدّمع خلقة في المآقي

فقد ألمع إلى موضوع قصيدته وهو الغزل برشاقة زادها ابتكار المعنى في حسبان الدمع خلقة في المآقي حسنا وجمالا.
6- الاستعارة التّصريحيّة في قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} فقد شبه الدين الحق بالصراط المستقيم الذي ليس به أدقّ انحراف قد يخرجه عن حدود الاستقامة لأن الخط المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين ووجه الشبه بينهما أن اللّه سبحانه وإن كان متعاليا عن الأمكنة لكن العبد الطالب الوصول لابد له من قطع المسافات، ومس الآفات، ليكرم الوصول والموافاة.
7- التفسير بعد الإبهام وذلك في قوله تعالى: {صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
8- التسجيع في {الرحيم} و{المستقيم} وفي {نستعين} و{الضالين} والتسجيع هو اتفاق الكلمتين في الوزن والرّوي.

.الفوائد الكامنة في الفاتحة:

انطوت هذه السورة على فوائد لا تحصى وسنورد ما تهم معرفته منها:
1- الألف واللام في الحمد للجنس على الأصح لأن حقيقة المحامد ثابتة للّه تعالى.
2- وسميت هذه السورة الفاتحة لأنها أول القرآن وبراعة استهلاله وتسمى أمّ الكتاب لانطوائها على المثل السامية وهي مكية على الأصح ومن أسمائها السبع المثاني والوافية، والكافية والشافية، والرّقية، والكنز والأساس وغيرها.
3- غير: لفظ غير مذكر مفرد أبدا إلا أنه إذا أريد به مؤنّث جاز تأنيث فعله المسند إليه تقول قامت غير هند وأنت تعني امرأة وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل وهو مغاير ولذلك لا تتعرف بالإضافة، وقد يستثنى بها حملا على إلّا كما يوصف بإلا حملا عليها وهي من الألفاظ الملازمة للإضافة لفظا أو تقديرا فإدخال الألف واللام عليها خطأ.
4- آخر الفاتحة {ولا الضّالّين} وأما لفظ آمين فليس منها ولا من القرآن مطلقا وهو اسم بمعنى استجب ويسنّ ختم الفاتحة به وفيه لغتان: المدّ والتقصير قال أبو نواس في المد:
صلى الإله على لوط وشيعته ** أبا عبيدة قل باللّه: آمينا

وقال آخر في القصر:
تباعد مني فطحل إذ دعوته ** أمين فزاد اللّه ما بيننا بعدا.

5- قد يقال: إن المؤمنين مهتدون فما معنى طلبها؟ والجواب أن المطلوب هو الثبات على الهدى أو زيادته وليس في كون بعض الناس لم يهتدوا ما يخرجه عن أن يكون هدى فالشمس شمس وإن لم يرها الضّرير، والعسل عسل، وإن لم يجد طعمه المرور، فالخيبة كل الخيبة لمن عطش والماء زاخر، ولمن بقي في الظلمة والبدر زاهر، وخبث والطّيب حاضر.
6- الأرجح أن الفاتحة هي أول سورة كاملة نزلت وأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بجعلها أول القرآن وانعقد على ذلك الإجماع ونزول أول سورة العلق وهو {اقرأ باسم ربك الذي خلق} يعتبر بمثابة تمهيد للوحي المجمل والمفصّل فلا ينافي كونها أول سورة من القرآن وذكر السيوطي في الإتقان: أن أول ما نزل من آي القرآن اقرأ باسم ربك، ويا أيها المدثر وسورة الفاتحة. اهـ.

.قال أبو البقاء العكبري:

سورة الفاتحة:
الجمهور على رفع {الحمد} بالابتداء و{لله} الخبر واللام متعلقة بمحذوف أي واجب أو ثابت، ويقرأ الحمد بالنصب على أنه مصدر فعل محذوف: أي أحمد الحمد، والرفع أجود لأن فيه عموما في المعنى، ويقرأ بكسر الدال إتباعا لكسرة اللام كما قالوا المعيرة ورغيف وهو ضعيف في الآية لأن فيه إتباع الإعراب البناء، وفى ذلك إبطال للإعراب، ويقرأ بضم الدال واللام على إتباع اللام الدال، وهو ضعيف أيضا لأن لام الجر متصل بما بعده منفصل عن الدال، ولا نظير له في حروف الجر المفردة إلا أن من قرأ به فر من الخروج من الضم إلى الكسر وأجراه مجرى المتصل، لأنه لا يكاد يستعمل الحمد منفردا عما بعده، والرب مصدر رب يرب، ثم جعل صفة كعدل وخصم، وأصله راب وجره على الصفة أو البدل، وقرئ بالنصب على إضمار أعنى، وقيل على النداء، وقرئ بالرفع على إضمار هو {العالمين} جمع تصحيح واحده عالم، والعالم اسم موضوع للجمع ولا واحد له في اللفظ، واشتقاقه من العلم عند من خص العالم بمن يعقل، أو من العلامة عند من جعله لجميع المخلوقات، وفى: {الرحمن الرحيم} الجر والنصب والرفع، وبكل قرئ على ما ذكرناه في رب.
قوله تعالى: {ملك يوم الدين} يقرأ بكسر اللام من غير ألف، وهو من عمر ملكه، يقال ملك بين الملك بالضم، وقرئ بإسكان اللام وهو من تخفيف المكسور مثل فخذ وكتف، وإضافته على هذا محضة وهو معرفة، فيكون جره على الصفة أو البدل من الله، ولاحذف فيه على هذا، ويقرأ بالأف والجر، وهو على هذا نكرة، لأن اسم الفاعل إذا أريد به الحال أو الاستقبال لا يتعرف بالإضافة، فعلى هذا يكون جره على البدل لا على الصفة، لأن المعرفة لاتوصف بالنكرة، وفى الكلام حذف مفعول تقديره: مالك أمر يوم الدين، أو {مالك يوم الدين} الأمر، وبالإضافة لى يوم خرج عن الظرفية، لأنه لا يصح فيه تقدير في، لأنها تفصل بين المضاف والمضاف إليه، ويقرأ مالك بالنصب على أن يكون بإضمار أعنى أو حالا، وأجاز قوم أن يكون نداء، ويقرأ بالرفع على إضمار هو أو يكون خبرا للرحمن الرحيم على قراءة من رفع الرحمن، ويقرأ مليك يوم الدين رفعا ونصبا وجرا، ويقرأ ملك يوم الدين على أنه فعل ويوم مفعول أو ظرف، والدين مصدر دان يدين.
قوله تعالى: {إياك} الجمهور على كسرة الهمزة وتشديد الياء، وقرئ شاذا بفتح الهمزة، والأشبه أن يكون لغة مسموعة، وقرئ بكسر الهمزة وتخفيف الياء، والوجه فيه أنه حذف إحدى الياءين لاستثقال التكرير في حرف العلة، وقد جاء ذلك في الشعر، قال الفرزدق:
تنظرت نصرا والسماكين أيهما ** علي مع الغيث استهلت مواطره

وقالوا في أما: أيما، فقلبوا الميم ياء كراهية التضعيف، وإيا عند الخليل وسيبويه اسم مضمر، فأما الكاف فحرف خطاب عند سيبويه لا موضع لها، ولا تكون اسما؛ لأنها لو كانت اسما لكانت إيا مضافة إليها والمضمرات لا تضاف، وعند الخليل هي اسم مضمر أضيفت إيا إليه، لأن إيا تشبه المظهر لتقدمها على الفعل والفاعل ولطولها بكثرة حروفها، وحكى عن العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب.
وقال الكوفيون: إياك بكمالها اسم وهذا بعيد، لأن هذا الاسم يختلف آخره بحسب اختلاف المتكلم والمخاطب والغائب فيقال: إياى وإياك وإياه.
وقال قوم: الكاف اسم وإيا عماد له وهو حرف، وموضع إياك نصب بنعبد.
فإن قيل: إياك خطاب و{الحمد لله} على لفظ الغيبة، فكان الأشبه أن يكون إياه.
قيل: عادة العرب الرجوع من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة.
وسيمر بك من ذلك مقدار صالح من القرآن.
قوله تعالى: {نستعين} الجمهور على فتح النون، وقرئ بكسرها وهى لغة، وأصله نستعون نستفعل من العون فاستقلت الكسرة على الواو فنقلت إلى العين ثم قلبت ياء لسكونها وإنكسار ما قبلها.
قوله تعالى: {اهدنا} لفظه أمر والأمر مبنى على السكون عند البصريين، ومعرب عند الكوفيين، فحذف الياء عند البصريين علامة السكون الذي هو بناء، وعند الكوفيين، هو علامة الجزم، وهدى يتعدى إلى مفعول بنفسه فأما تعديه إلى مفعول آخر فقد جاء متعديا إليه بنفسه ومنه هذه الآية، وقد جاء متعديا بإلى كقوله تعالى: {هداني ربي إلى صراط مستقيم} وجاء متعديا باللام، ومنه قوله تعالى: {الذى هدانا لهذا}.
و{السراط} بالسين هو الأصل لأنه من سرط الشيء إذا بلعه، وسمى الطريق سراطا لجريان الناس فيه كجريان الشيء المبتلع، فمن قرأه بالسين جاء به على الأصل، ومن قرأه بالصاد قلب السين صادا لتجانس الطاء في الإطباق، والسين تشارك الصاد في الصفير والهمس، فلما شاركت الصاد في ذلك قربت منها، فكانت مقاربتها لها مجوزة قلبها إليها لتجانس الطاء في الإطباق، ومن قرأ بالزاى قلب السين زايا، لأن الزاى والسين من حروف الصفير، والزاى أشبه بالطاء لأنهما مجهورتان، ومن أشم الصاد زايا قصد أن يجعلها بين الجهر والإطباق، وأصل {المستقيم} مستقوم ثم عمل فيه ما ذكرنا في نستعين، ومستفعل هنا بمعنى فعيل: أي السراط القويم، ويجوز أن يكون بمعنى القائم، أي الثابت، وسراط الثاني بدلا من الأول، وهو بدل الشيء وهما بمعنى واحد وكلاهما معرفة، والذين اسم موصول وصلته أنعمت، والعائد عليه الهاء والميم، والغرض من وضع الذي وصف المعارف بالجمل، لأن الجمل تفسر بالنكرات والنكرة لاتوصف بها المعرفة، والألف واللام في الذي زائدتان وتعريفها بالصلة، ألا ترى أن من وما معرفتان ولا لام فيهما فدل أن تعرفهما بالصلة.
والأصل في الذين اللذيون، لأن واحده الذى، إلا أن ياء الجمع حذفت ياء الأصل لئلا يجتمع ساكنان، والذين بالياء في كل حال لأنه اسم مبنى، ومن العرب من يجعله في الرفع بالواو، وفى الجر والنصب بالياء كما جعلوا تثنيته بالألف في الرفع وبالياء في الجر والنصب.
وفي الذي خمس لغات: إحداها الذي بلام مفتوحة من غير لام التعريف، وقد قرئ به شاذا، والثانية الذي بسكون الياء، والثالثة بحذفها وإبقاء كسرة الذال، والرابعة حذف الياء وإسكان الذال، والخامسة بياء مشددة.
قوله تعالى: {غير المغضوب} يقرأ بالجر، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه بدل من الذين.